بين سلطة النص وسلطة القراءة

حول قراءة الدكتور ضياء خضير لمشرع الدكتور عبد الجبار الرفاعي الديني –  –

الدكتورة بتول قاسم ناصر

يكتسب النص سلطته من مصادر متعددة  نصت عليها نظريات القراءة والتلقي . وهذه السلطة التي يمتلكها النص تفرض نمطاً خاصاً من التلقي يناسبها بما يؤسس لسلطة مقابلة يؤسسها نص القارىء إزاء النص المقروء . قد تعود سلطة النص الى انتشاره وتأثيره في جمهور واسع أو في الوسط الثقافي خصوصاً لكونه مثلاً يحمل مشروعاً فكرياً مختلفاً يتضمن معاني وغايات تغييرية أو يحمل أهدافاً تربوية وأخلاقية لها وقعها على من يؤمن بها أو يروج لها . أو قد تعود الى شخصية صاحب النص وتأثيره في متلقيه بما له من سلطة معرفية تأتي من خلال قدرة تعبيرية تتضمنها لغته بما تنطوي عليه من جماليات وصور وإيحاءات وغيرها. وهذه السلطة المعرفية والبلاغية تلتقي مع  خبرات المتلقي الخبير وتوفر له متعة عقلية وشعورية خالصة وتستثير لديه لذة الكشف والمعرفة خصوصاً إذا كان النص مفتوحاً حاملاً للمعنى المتعدد ومثيراً للأسئلة والتصورات. فهذا يهيء له أن ينتشر أكثر من النص المغلق وذلك لتقبله الواسع للتأويل . إن السلطة المعرفية والتعبيرية التي يمتلكها النص تفرض نمطاً خاصاً من التلقي ونمطاً خاصاً من القراء ، إذ تستهوي القارىء الباحث عن المعنى والمعرفة وعما هو مختلف من فكر ومضمون وأسلوب وثقافة وموقف ، لما لهذا القارىء من قدرات واسعة تتناسب مع وصفه بالقارىء الفعلي أو النموذجي أو الخبير الواعي الذي له خبراته ومعارفه وأدواته التحليلية وقدراته في التعبير فلا يمارس تلقياً سطحياً مما يمارسه أي متلقٍ آخر مما يوفر انسجاماً معرفياً وإبداعياً قائماً بين نمط النص المقروء ونمط القراءة  . فالقراءة يمكن أن تكون فاعلة ونوعية ومنتجة وهذا ما نجد مصداقه في قراءة الأستاذ الدكتور ضياء خضير لمشروع الأستاذ الدكتور عبد الجبار الرفاعي الديني التي تضمنها كتابه (في مشروع عبد الجبار الرفاعي الديني  / قراءة نقدية) الذي يتضمن خمسة فصول ومقدمة وخاتمة ، وهذه الفصول بعناوينها الفرعية تتضمن المفاصل الأساسية في خطاب الأستاذ الدكتور عبد الجبار الرفاعي والمضامين البارزة التي يتناولها في مشروعه الديني الجديد.    

عبد الجبار الرفاعي/ الرجل والتجربة

يقول الأستاذ الدكتور ضياء خضير – مبيناً مصدر سلطة نص الدكتور الرفاعي وتأثير خطابه فيه : ( يظل الخطاب الديني الذي بدأه الأستاذ الدكتور عبد الجبار الرفاعي منذ أكثر من ثلاثين عاماً مثيراً للاهتمام والمتابعة بسبب من تميزه وغزارته وروحه الانساني المتسامح وحرارة اللغة التي يجري التعبير بها عنه.  وقد شدني كما شد الكثيرين من الذين تابعوا هذا الخطاب وكتبوا عنه  ، إعجابي بالرجل ، وليس فقط بجدة خطابه واختلافه لأنه يجسد في خلقه الرفيع وسلوكه العملي أنموذجاً للشخصية العراقية المثقفة والمتحررة من الالزامات التقليدية التي تميل برجل الدين عادة نحو هذا الطرف أو ذاك . فنحن هنا أمام رجل دين عراقي آخر يمتلك خطاباً قادراً على اجتياز الحواجز الموضوعة في طريق كل الناس الذين يمارسون حياتهم في مجتمعات اسلامية ما يفتأ رجل الدين فيها يحتكر سلطة المعرفة الدينية والفقهية والتشريعية التي تحدد ما هو محلل، وما هو محرم في سلوك المكلفين من أتباعه في هذا المذهب أو ذاك . ومن النادر الوقوف بين ركام هذه الخطابات القديمة والمعاصرة الشفوية والمكتوبة على هذا النوع الوسطي الذي يجعل الدين في خدمة الانسان بصرف النظر عن مذهبه ولونه وعرقه ولا يجعل الانسان خادماً لهذا الدين وأصحابه .. عبد الجبار الرفاعي يجعل من نفسه مكملاً ووريثاً لسلسلة من المفكرين وعلماء الدين الذين أنجبتهم أو احتضنتهم الحوزة النجفية في عهود مختلفة من عصرنا الحديث .. وهو إذ يتفق مع رجال الدين هؤلاء الذين يخرجون على ( خطاب تبجيل كل شيء في التراث ، وفي سعيهم لاستيعاب شيء من عناصره استيعاباً نقدياً ، والجرأة في نقد بعض المقولات والآراء وعملهم في البحث عن آفاق لقراءة النص وتفسيره في سياق الواقع ومعطياته واستفهاماته ، ومحاولتهم الكشف عن شيء مما هو نسبي في ميراث المتكلمين والفقهاء) لا يخفي معرفته بأن بعض محاولاتهم تلك لم تغادر المناهج التقليدية الموروثة بشكل كامل ، فيما نجح هو في فعل ذلك وحاول منذ البدء أن يجعل من خطابه الديني مختلفاً يمد به الى شريحة أوسع من الناس .. وهو يقول إن أكثر من سبقوه على هذا الطريق كانوا غير قادرين على توظيف مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة من الفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع الحديث في فهم الدين ونقد التراث، وما هو مستتر من نظم انتاج المعنى الكامن فيه ..

والدعوة الى (أنسنة الاسلاميات ، لا أسلمة الانسانيات) التي أطلقها الدكتور الرفاعي تظل شعاراً لدى المتنورين القلة من رجال الدين في هذه الدولة، ولكنه شعار غير قابل للاشتغال لدى آخرين غيرهم مازالوا يتدخلون في حكم هذه الدولة ويعبثون بمصالح الناس فيها تحت عناوين وشعارات اسلامية وديموقراطية مضللة . وما ينطوي عليه خطاب الدكتور الرفاعي في هذا الشأن من شفافية وغنى دلالي وما يوفره لقارئه من عناصر اتزان عقلية ونفسية هو الذي يحفزنا على جعل بعض جوانبه موضع نقاش واستفهام من أجل تعميقه واثارة الأسئلة المعترضة أو المحفزة للحوار والنقاش حوله . وصاحب هذا الخطاب لا يضيق بالأسئلة ويقول إنه لا يملك مثل أصحاب التدين السياسي إجابات جاهزة تتكرر فيها الشعارات التي لا معنى لها ولا قيمة .)(1).

إن علة تميز وتأثير خطابه الدكتور الرفاعي التنويري أنه يتضمن رؤية وفهماً للدين لا يكرر ما هو متداول من الكتابات المختلفة عن الدين بأنه وهم أو مخدر أو تراث مندثر أو مرحلة من مراحل الوعي البشري، بل تعلن بوضوح أن الدين حاجة وجودية لكينونة الانسان بوصفه انساناً.  وإن ما يشيع فيه من روح التسامح والطيبة والمحبة والنبل والنقاء والتواضع والصدق والشفافية والنزعة الاعترافية المؤثرة جعله مغايراً لما اعتدنا عليه في العراق من خطابات دينية وفكرية لها صلة بالدين وفلسفته . وهذا ما دعا  الدكتور ضياء خضير الى أن ينظر بأهمية الى وجود هذا الخطاب الديني المتزن الجامع للجوانب الروحية والعقلية في هذه المرحلة التاريخية القلقة من حياتنا العراقية والعربية وهو ما دفعه الى العناية به والكتابة عنه . كما أنه مصدر العناية التي يوليها مثقفون عرب وعراقيون له لما جاء في خطابه من آراء وأفكار جديدة لمعالجة أوضاع مرَّ علينا زمن طويل دون أن نسمع صوتاً بهذه القوة وهذا الصفاء يتحدث عنها (2).

لقد حققت أفكار ومؤلفات الدكتور عبد الجبار الرفاعي انتشاراً كبيراً ، وبالرغم من سعة امتداده وكثرة قرائه إلا أن خطابه المتميز يبقى متطلباً لقارىء محدد قد تسميه نظرية القراءة والتلقي بالقارئ الفعلي أو الخبير أو النموذجي الذي يستطيع ان يرتفع الى مستوى النص ويستقبل منه في أثناء عملية القراءة إيحاءات ذهنية وإحساسات بعينها لا تلوح لغيره فيعمل على جلاء درجة تميزه وفكّ أسراره ويشارك مشاركة فعالة في إنتاجه . إن نص الدكتور عبد الجبار الرفاعي يتطلب القارىء الخبير الفعلي الذي يمتلك القدرات التي يمتلكها مؤلف هذا النص، الذي هو قائم على مرجعيات معرفية واسعة مما يجعله غير ميسور لأي قارئ ، فهو يستدعي خبرات متراكمة وإمكانات معرفية متنوعة ، وقدرة إبداعية متميزة تشتغل تأويلياً بالدرجة نفسها التي يشتغل بها المؤلف إبداعياً. وهذه الطبيعة المتميزة للمتلقي التي يتطلبها النص لا تتوفر لدى معظم القراء ، مما يحول دون قدرتهم على استقباله استقبالاً مناسباً فضلاً عن المشاركة في إنتاجه . إن مثل هذه النصوص إنّما هي في حاجة إلى قارئ يمتلك الأدوات القادرة على استيعاب النص والإضافة اليه والقدرة على كشف الأقنعة والأسرار التي فيه عبر عملية الشرح والتأويل وإثارة الأسئلة حوله واستحضار المرجعيات المتنوعة حتى يمكن الوصول إلى القراءة الموازية المشاركة في انتاجه.  

-سلطة النص وسلطة القراءة بين الأديب والناقد، وبين رجل الدين أو المفكر الديني 

الدكتور ضياء خضير أديب وناقد غير متخصص في الشأن الديني وقراءته لمشروع الدكتور الرفاعي لاتعني أنه يتدخل فيما لا يعنيه وإنما أراد رؤية هذا الخطاب من زاوية أخرى تختلف عن رؤية متلقي هذا الخطاب من علماء دين ومتخصصين وهذا يمنحه ميزة أخرى . وبالرغم من علاقته بالدكتور الرفاعي إلا أنه لا يتجاوز على النظرة الموضوعية المحايدة في قراءته لأفكاره . يذكر الدكتور ضياء خضير أن الدكتور الرفاعي كان تلميذاً له الا أنه يقر له بالأستاذية في هذا الجانب من العلم الذي يتخصص به ولا غرابة في ذلك في تاريخ العلم . ويصفه بأنه رجل دين عرفاني ومثقف استثنائي . ويبيّن أن مدى التأثير الذي مارسه فكر الدكتور الرفاعي على الكثير من الناس الذين يعرفهم ولا يعرفهم هو ما عزز فيه الرغبة والفضول في التعرف الى الرجل وفكره ثم الكتابة عنه (3) . وهذا يؤكد أن القارىء الفعلي يسعى الى اختيار النص الذي ينسجم مع اهتمامه ومع مستواه الثقافي والعقلي وهو يمتلك القدرات التي يمتلكها الكاتب والتي تمكنه من الوصول الى المعنى الكلي للعمل المقروء ووضع يده على مكامن الإبداع فيه . إن النصوص العالية تستدعي قارئاً متسلحاً بذخيرة معرفية وإبداعية تمكّنه من إعادة إنتاج النص وتشكيله . وهذا  ما يتوفر لدى القارئ الناقد الدكتور ضياء خضير بما يمتلكه  من قدرة أدبية ولغوية ومعرفية واسعة تمكّنه من الفهم الذي ينبغي أن يتمتع به القارئ الخبير بالنص . 

يعمد الدكتور ضياء خضير الى قراءة (نقدية مقوِّمة ) لعرض التفاصيل الأساسية في خطاب الدكتور الرفاعي وتتبع معاني التجديد فيه ومدى ما حققه من انزياح عن الخطاب الديني التقليدي . ويقرر أن التقويم النهائي لمجمل خطاب الدكتور الرفاعي الذي يتوزع على عدد كبير جداً من الكتب والمباحث ينبغي أن لا يتم فقط من خلال رؤية صورة الخطاب في ذاته وإنما أيضاً في انعكاسه على  جمهور قرائه في العراق وخارجه ورؤية مدى تأثيره فيهم . وأن تقدير الروح التجديدي المتسامح والمنفتح في هذا الخطاب لا بد أن يؤخذ بالقياس الى مسافة الانزياح التي تفصل بينه وبين الخطابات الدينية التقليدية التي درجنا في العراق بشكل خاص على تلقيها خلال سنين طويلة في داخل الحوزة الشيعية النجفية العراقية وقم الإيرانية وخارجهما . ويجد أن مجمل المباحث الكلامية الجديدة فيه تحيل الى رؤية عرفانية صريحة أو مقنعة . وأنه لم يكتفِ في مدونته الفكرية والكلامية برفض أغلب ما رآه في تراث الفقهاء والمتكلمين القدماء، إنما أراد ان يضفي عليها مسحة اخلاقية وروحية متمثلة بما يسميه (تصوف العرفان والعرفاء) ، فالجانب العرفاني له حضور كثيف في منظومته الدينية  . ويرى أن الدعوة الى (علم كلام جديد) هي مركز عملية التنوير الديني الكبرى التي يقودها الدكتور الرفاعي في العراق والعالم العربي والاسلامي منذ أكثر من ثلاثين عاماً . وهو علم يتجاوز مصطلح (الكلام) المعروف الذي بدأ به المعتزلة في البصرة في مطلع القرن الثاني للهجرة بعد واقعة الاعتزال المعروفة، ويتجاوز مجمل مفردات المدونة الفقهية القديمة من أجل تأسيس رؤية عقلية وفقهية جديدة مركبة تسعى الى فهم الدين وتجديد وظيفته المحورية في الحياة وإعادة بناء مناهج تفسير القرآن الكريم والنصوص الدينية وبناء علوم الدين ومعارفه في ضوء الفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع ومختلف المعارف الحديثة . الفرق بين علم الكلام القديم والجديد أن هذا يأخذ ( بمنجزات العلم الحديث ويلتزم بالبراهين العقلية ومعاييرها دون أن يفرط بالجانب الميتافيزيقي الروحي الخاص بضرورة الفهم الجديد للوحي ) وهو أكثر انفتاحاً وانسجاماً مع حاجات البشر الواقعية المتجددة وكرامتهم الانسانية بوصفهم خلفاء الله على هذه الأرض(4)

-بين الدين والآيدلوجيا 

في مناقشته للدكتور الرفاعي في رؤيته للعلاقة بين (الدين والآيديولوحيا)  يطرح الدكتور ضياء خضير رؤية مقابل رؤية في قراءة حوارية منتجة ، تؤكد أن أيّ منجز ثقافي : أدبي أو فكري عام ليس إلا علاقة جدلية بين النص والقارىء ، وأن النص مفتوح على القارئ، وهذا القارئ المتلقي له إسهام في إعادة إنتاج النص لينبثق من كل قراءة  نص تأويلي جديد يؤكد الاختلاف والتعدد فكأن النص يولد وهو غير مكتمل ولذلك يحتاج إلى مساهمة القارئ من أجل إتمامه . وهو يتيح إمكاناته التعبيرية ومضامينه ومرجعياته إلى قارئ متمكن قادر على استنطاق النص واستكشافه فتتجلى حالة إبداعية مشتركة يسهم فيها القارىء المتلقي مع المؤلف مبدع النص . 

يرى الدكتور الرفاعي أن العلاقة بين (الدين والآيديولوحيا) (مسؤولة عن التردي الذي واجهه الدين في العهود الإسلامية المختلفة ) ، في حين يراها مفكرون آخرون بالضد من ذلك مثل المغربي عبد الإله بلقزيز الذي يقول إن (الآيديولوحيا ليست وعياً مغلوطاً كما هو شائع، وإنما هي ولا سيما في منطلقاتها السياسية وأهدافها شكل من الوعي الانساني والتاريخي مشروع ) . ولعل موقف الدكتور الرفاعي الناقد أو غير المنسجم مع موقف المفكر الإيراني المعروف علي شريعتي أن يكون ذا علاقة ما بهذه الآيديولوحيا التي لم يرد علي شريعتي لأفكاره ومجمل خطابه الديني في الثورة وإرادة التغيير في المجتمع أن يظل بعيداً عن فهم جمهور الشارع الإيراني الذي يلعب التدين دوراً مركزياً فيه . ومن الصعب أن يقال في خطاب علي شريعتي الديني ما قيل في غيره من أن الأيديولوجيا تعني عنده ( نظاماً لتوليد المعنى ينتج وعياً زائفاً بالضرورة ، وتصنع نسيج سلطة متشعبة وفقاً لأحلام مسكونة بعالم طوباوي متخيل ) حسب تعريف الدكتور الرفاعي لها ، فحتى هذا (الوعي الزائف ) يمكن أن يشكل في حال وجوده تجربة يجري تجاوزها في مرحلة لاحقة . وفكر الدكتور علي شريعتي الذي مات أو قتل شاباً لم يبقَ كما يعرف الدكتور الرفاعي حبيساً في الكتب أو الأبراج العاجية، بل كان على العكس من ذلك ومع كل ما انطوى عليه من نواقص وثغرات تتصل بحداثة التجربة وامتزاج بعض أطرافها بالتجربة النضالية والفلسفية الغربية واحداً من الخمائر التي أسهمت في تحريض الشارع الإيراني وتهيئته للتغيير التاريخي الذي جرى تحت قيادة الخميني في ايران عام 1979.  

ولم تكن سلسلة مقالات مثل تلك التي ضمها كتاب الدكتور عبد الكريم سروش ( قبض وبسط نظرية الشريعة) بعد سنوات قليلة على قيام الثورة هي المسؤولة وحدها عن تحريك ( الجرح النرجسي) للتفكير الديني التقليدي في إيران حسب تعبير الدكتور الرفاعي ، بل كان الدكتور علي شريعتي من أوائل المفكرين الإيرانيين ذوي الشأن ممن أنزلوا مسبارهم في هذا الجرح وأخرجوا للسطح بعض الدماء الفاسدة فيه . وكون بعض كتابات شريعتي ذات مسحة شعرية تصبح معها ( مثل قصيدة نثر حديثة) ليست مقصورة عليه وحده لأن ما يشدنا الى خطاب الدكتور الرفاعي نفسه ، بين أشياء أخرى ، هو هذا الروح الشعري الذي يستبطن بعض أجزائه ويمثل منحى ثابتاً في الروح العرفاني الصوفي الذي يتخلل هذا الخطاب ويضفي عليه مسحة جمالية وشعرية مميزة . وما يقوله الدكتور الرفاعي من أن ( ما أفضت به أدلجة الدين هي عبودية الانسان للآيديولوحيا واستلاب الآيديولوحيا لروحه وقلبه ، ووعود خاصة موهومة ) لا يستقيم هنا لا في عمومه ولا عند تطبيقه على فكر الدكتور علي شريعتي بخصوصه . وقد بيّن الدكتور فالح مهدي وهو يعلق على عبارة عبد الجبارالرفاعي هذه بأننا (لا نستطيع أن نفرق بين الدين والآيديولوحيا ، ولا يستقيم أمر أي عقيدة دون أدلجة وطقوس وعبادات . ) مع الإشارة هنا الى أن عبارة ( أدلجة الدين هي عبودية الانسان للآيديولوجيا) لا معنى لها بحد ذاتها .. ولعل هذه العبارة هي انموذج لعبارات أخرى غيرها في خطاب الدكتور الرفاعي الديني، الذي لا يجد صاحبه أحياناً طريقاً الى إثبات إيمانه بغير تكرار الحديث عن الإيمان نفسه . والتأثير الذي تتركه عبارته على القارىء بصدقها وعاطفتها وطاقتها الشاعرية وما تنطوي عليه من روح عرفاني تصوفي لا ينفي عدم موضوعيتها أحياناً عند من يقرأونها قراءة عقلية باردة) .

 إن الآيديولوجيا التي ارتبط بها مشروع الدكتور علي شريعتي لم تنتج وعياً زائفاً مسكوناً بأحلام عالم طوباوي ، ولم يكن مشروعه وخطابه الديني (يوتوبيا) متخيلة كما يصفه الدكتور الرفاعي ذلك أن وصف الدكتور الرفاعي نفسه للتأثير العملي الساحق الذي مارسه هذا الخطاب على الوجدان الشعبي الايراني من شأنه أن ينفي هذه اليوتوبيا ويجعل هذا الخطاب أداة تحريك وتحريض فاعلة تهدف الى تغيير الوضع القائم وعدم الركون للمواضعات السياسية والدينية القائمة مهما كان نوع عناصر هذه (اليوتوبيا) و(الرومانسية) الموجودة فيه ومهما كانت النتائج المترتبة عليه(5) .   

– فاعلية القراءة

قراءة الدكتور ضياء خضير تؤكد أن له دوراً فاعلاً وأساسياً في بناء وانتاج المعنى النهائي للموضوع الذي بحث فيه الدكتور الرفاعي ولم تكن مهمته مقتصرة على الكشف عنه أو عرضه فقط ، وبهذا يكون المعنى النهائي مشتركاً، وهو حصيلة التفاعل بين فعليّ مبدع النص وقارئه .  إن نص الدكتور الرفاعي  يثير أسئلة يجيب عنها القارئ ويترك ثغرات وفجوات يضطلع بملئها . ليست قراءة الدكتور ضياء خضير تلقياً سلبياً يكتفي بفهم معنى النص الذي يريده صاحبه وعرض مضمونه كما هو، بل هي قراءة إيجابية فاعلة تتجاوز فهم مراد المؤلف الى سبر أغوار النص والقيام بتحليل دقيق يستنطقه معزز بوعي وإعداد مسبق بما يؤكد عمق معرفة القارىء وغناه الثقافي وإمكاناته الأدبية واللغوية . وهذه هي القراءة الإبداعية التي هي عملية معرفية مكملة تحدّد أبعاد النص وتجيب عن أسئلته وتملأ فراغاته وتكمل نقصه وتبادر الى تأويل ما يحتاج منه الى تأويل وترسم ملامح  تميزه وجماليته، وبهذا تنصهر الآفاق : أفق المؤلف وأفق القارىء المحاور النشط الذي يوسع أبعاد النص لكي تتسع  لمعان جديدة مضافة . إن طبيعة النص المقروء بكونه نصاً مفتوحاً والطبيعة الشخصية المنفتحة لمؤلفه تساعد القارىء في إنجاز هذه المهمة والدكتور الرفاعي معروف بروحه المتسامح المنفتح على الحوار وتقبل الرأي والرأي الآخر. وهو يعلن ترحيبه بالاختلاف في الرأي وحرصه على الأخذ بكل ما هو صائب  من الأفكار والملاحظات حتى إذا كان مخالفاً وأن يشرك القارىء معه ويرى ردة فعله على ما يقوله في دفاعه عما يعتبره أساسيا في موقفه الإيماني من الدين وحاجة الانسان الأنطولوجية إليه . وهذه الطبيعة الإيجابية التي تنفتح حتى على القراءة المخالفة هي التي تساعد على تكامل دور القارىء والمؤلف في إنتاج النص .

 التصوف الإسلامي: رؤية مختلفة –

 القراءة ينبغي لها أن تكمل مهمة النص المقروء وأن تكشف فيه ما لم يُكشف عنه من قبل ، وقد يذهب بعض المنظرين الى وجوب اختلاف القراءة عن النص الذي تقرأه وإلا فلا مبرر لها ، فالقراءة يجب أن تكون فاعلة منتجة وأن تصل الى مستوى الإبداع المكافىء وهذا ما يتجلى لنا في قراءة الدكتور ضياء خضير لمشروع الدكتور الرفاعي التي اخترنا منها بعض الوقفات عند بعض المحاور المهمة في هذا المشروع منها موضوع (الدين والعرفان الصوفي) الذي يحتل الحديث عنه مكانة مركزية في مدونة الدكتور الرفاعي الكلامية ، ويحظى دور العرفان الصوفي في إشاعة روح التدين واستكمال الإيمان بأهمية كبيرة لديه . ولكن الدكتور ضياء خضير يرى أنه من الصعب تطبيق هذه التجربة أو إشاعتها بين جمهور المسلمين سواء من المؤمنين أم الذين لا يمنحون هذا الجانب في حياتهم التي يكافح أغلبهم فيها للحصول على الخبز والكرامة أيَّ اهتمام . وهي فضلاً عن ذلك خيار شخصي لا يقتصر على المسلمين، بل يتعداهم الى غيرهم من المؤمنين بدين وإله واحد وغير المؤمنين بإله خالق لهذا الكون . وبهذا يبقى التصوف في آخر الأمر حلاً فردياً لا يمكن تطبيقه على عموم الناس من أتباع هذا الدين، أو من قبل غيرهم حتى إذا كان يلبي مطلب (التصوف العقلي) الذي يرد الحديث عنه في مقابل ( تصوف الاستعباد) ، مع أن طبيعة الأيمان الديني العاطفية والوجدانية تجعل من الصعب عقلنة الخطاب الصوفي وتصورات أصحابه النافرة، والتي لا تخضع لغير المشاعر التي تعمل على تغييب العقل والحس كليهما أو تخفيض هيمنتهما الى أقل درجة ممكنة ، هذا إذا تركنا جانباً الصورة الأخرى التي فضح الدكتور الرفاعي نفسه فيها أصحاب (التصوف المزيف) من ذوي المصالح وطالبي الجاه والحياة المجانية . فضلاً عن أن هناك فرقاً بين الحقيقة التاريخية التي أوضحها الدكتور الرفاعي لبعض أقطاب الصوفية مثل جلال الدين الرومي وتلك الصورة (الميثولوجية) التي وقرت عبر العصور التالية لوفاته في أذهان بعض أتباعه الذين حولوا الوضع السامي لتصوفه وانخطافاته الروحية الى فولكلور أو الى تلك الصورة التي ترتهن فيها حرية المريد والتابع ويتحول الى مستعبَد يؤدي طقوساً وحركات وصوراً مزخرفة لا علاقة حقيقية لها بأصل العرفان الصوفي النابع من تلك الحاجة الوجودية أو الظمأ الإنطولوجي الذي يروي عطش الكائن ويطمئن رغبته بالخروج من محدودية وضعه البشري . وهي حاجة غير مقصورة على المسلم الذي يؤمن بالله الواحد الأحد ، فهي تشبه في جانب منها النيرفانا الهندية وما لدى أصحاب بوذية الزن والكهنة الصينيين واليابانيين القدماء وفلسفاتهم التي تؤمن بالماهية الواحدة عند البوذا وكل البشر وما يتصل بها من طرائق الطاو الصينية التي لا يؤمن أتباعها بالمناهج العقلية، لأن الحقيقة عندهم تتجاوزها مثلما تتجاوز اللغة والحروف المنطوقة (6)

ويعود الدكتور ضياء خضير ليبحث في موضوع (التصوف وموقع الرؤية العرفانية بين الخاص والعام) إذ ان الحديث عن التصوف يتكرر في كل مدونة الدكتور عبد الجبار الرفاعي الكلامية (فهو جزء لا يتجزأ من خطابه الديني الجديد في روحه ومعناه والدعوة اليه والتعريف بآلياته والتغني بمزاياه والاشارة الى أبرز ممثليه في تاريخنا الاسلامي) يحتل حيزاً كبيراً في كتبه . (وقارىء الدكتور الرفاعي يشعر أن التصوف هو الرافعة والسند الذي يلجأ اليه المسلم (لأنه يستجيب للمتطلبات الأساسية لحياة الانسان الجسدية والسايكولوجية والانطولوجية ويزود الانسان بطاقة إيجابية تكفل له خلق حالة توازن بين مختلف احتياجاته ) . إن حالة الضياع الوجودي التي يتخبط فيها كثير من البشر هي التي تلجىء المسلم الى هذا التصوف . وهو محاولة لاسترداد الدين لوظيفته بوصفه نظاماً لانتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة ، وغير ذلك من مسوغات تجعل من التصوف بصورته المعرفية الجديدة ضرورة من الضرورات التي يحتاج اليها المسلم في هذا العصر لاستكمال إيمانه والوصول الى نقطة التوازن والانسجام المطلوبة في حياته إزاء نفسه وخالقه . وهنالك فرق يشدد الدكتور الرفاعي على وضعه للفصل بين التصوف بصورته الكلامية التقليدية و(التصوف العرفاني) الذي هو تصوف العرفاء والعرفان في مقابل مصطلحي التصوف والصوفية لأن اسقاطات المتكلمين والفقهاء وأحكامهم السلبية على مصطلحي التصوف والمتصوفة قلبت دلالتهما وجعلتهما يفتقران الى كل معنى جميل . وهو يشير بذلك الى ما بين المتكلمين والمتصوفة من خلاف عميق..على نحو يجعل البعض يرى بأن التصوف كمذهب وحركة كان رد فعل على موقف المتكلمين الصارم من العقيدة.. ويتطلب المنهج العام في علم الكلام إقامة الدليل العقلي على صحة العقائد والذود عنها ضد الملحدين ، بينما يقوم منهج التصوف الخاص على محاولة معالجة القلق والاغتراب الوجودي والتخلص منهما عن طريق الإيمان والمجاهدة الروحية . فالمتكلمون أهل جدل وعقل ونظر ، والمتصوفة أهل سلوك وطريق . أما الاختلاف في الجوهر فيتلخص عندهم في أن الذي يعتمده الفلاسفة وعلماء الكلام في الجدال والنقاش وإقامة البراهين يبقى عاجزاً عند الصوفية عن معرفة الله معرفة حقيقية لأن هذه المعرفة  يجب أن تتم عن طريق القلب؛ وهي معرفة لدنية تحصل عن طريق مجاهدة النفس وإماتة الحس وإضعاف الشهوات واللهج بالذكر ( فيرق الحجاب  الموضوع على القلب المخلوق وتنكشف له الأنوار).. فضلاً عن الرؤية التوحيدية التي يختلف فيها التصوف المعرفي عن رؤية التوحيد المنطقية ذات الأصول المنطقية الأرسطية عند أهل الكلام) (7) .

ويتساءل الدكتور ضياء خضير عن معنى الفرق الذي يقيمه الدكتور الرفاعي بين الرؤيتين : ( ولست أعرف الطريقة التي تكون فيها (الرؤية للعالم في التصوف المعرفي تقدم تفسيراً للدين ولنصوصه يعيد للانسان مكانته المهدورة في الرؤية الكلامية للعالم ) في واقع تتحكم فيه قوى كونية كبرى مسلحة بتكنولوجيا إعلامية وفكرية وعلمية لا طاقة للمنسحبين الى داخل ذواتهم من أصحاب التصوف الكلامي أو العرفاني على مواجهتها وتحقيق الانسجام والتوازن المطلوب في حياتهم من خلالها ، اللهم إلا بطريقة سلبية عاجزة . والنماذج النصية التي يوردها الدكتور بهذا الصدد لبعض المتصوفة الكبار لا تزيد عند عموم الناس على كونها صوراً انشائية ولفظية جميلة ، ولكن من الصعب تمثلها وفهمها وما تنطوي عليه من عمق فضلاً عن أن تطبيقها وسلوكها يقع خارج مكنة الغالبية العظمى منهم . وما يورده المؤلف من نصوص لابن عربي تكون قادرة كما يقول على جعل الانسان كيمياء إلهية تتبدل بها كيفيات الأعيان ، يظل مدعاة للتساؤل حتى من قبل المؤمنين المستعدين للدخول في التجربة الصوفية  فمثل هذه النصوص التي يقول الشيخ الأكبر فيها مثلاً (أنت كيميائي بك تنقلب الأعيان أيها الانسان ) وأن الانسان الكامل الذي أقامه الحق برزخاً بين الحق والعالم فيظهر بالأسماء الإلهية فيكون حقاً ويظهر بحقيقة الإمكان فيكون خلقاً ) ، أقول إن مثل هذه النصوص المكتوبة بلغة رمزية خاصة قد يتواصل معها الدكتور ويحسن الإصغاء اليها وفهمها ضمن ثقافته وتجربته الخاصة تبقى نوعاً من اليوناني الذي لا يفهم، كما كان أجدادنا العرب يقولون، بالنسبة الى الغالبية العظمى من الناس ، فضلاً عن أنها قد تشكل في صورتها المعقدة هذه تناقضاً أو خروجاً مع جوهر دعوة الدكتور الرفاعي الموجهة الى جمهور واسع من القراء البسطاء والفقراء، وليس للخاصة منهم . وعلى الرغم من إشارة الدكتور الرفاعي الى بعض مثالب الصوفية وتناقضاتهم فإنه يتجنب الخوض في شطحات صاحب هذه النصوص العلمية والمعرفية التي لا صلة لها بعلم ولا بمعرفة عقلية متوازنة كحديث الشيخ عن الزمان..وقد تكون الدعوة الى التصوف في إطاره العام على العكس مما يرجوه الدكتور الرفاعي مدعاة عند بعض الكتاب مثل الدكتور محمد أركون لتفكك الذات وانحلالها عن طريق ما يعيد بعض العلماء تجديده من خلال المصطلح العتيق (التصوف أو التمسك الروحاني والتقى والزهد ) .. ومادام الدكتور الرفاعي يقول لنا في أكثر من مناسبة إنه ( لا أفق لتجديد الفكر الديني  خارج دراسة الفلسفة الحديثة وعلوم الانسان والمجتمع .) فلماذا يبقى عالم التصوف حتى بصورته العرفانية المختلفة بعيداً في جملته عن هذا القول الفلسفي الحديث ؟.. ونحن نتذكر دائماً مايقوله الدكتور الرفاعي من أن (وظيفة الفلسفة وعلوم الانسان حماية العقل من أن تبدده الأوهام وتسكنه الخرافات وما تفضي اليه من تشوهات في رؤية العالم ) وهو ما يقع على الضد من صورة المتصوف الذي لا يحكمه منطق ولا فلسفة عقلية ولا علم لأن ما يحكمه نوع خاص من العلم اللدني لا سبيل الى الفصل فيه بين الحقائق والأوهام . وقد كنا قد نقلنا.. ما يقوله ابن رشد عن الصوفية في كتابه ( الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة) ما يؤكد فيه هذا المعنى ويقويه : ( وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقاً نظرية أعني مركبة من مقدمات وأقيسة ، وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب.. ) وهو يضيف : ( إن هذه الطرق وإن سلمنا بوجودها فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس . ) ولا شك عندنا أن تجربة الرفاعي الصوفية أو العرفانية بكلمة أصح نتاج لتجربة فردية وتأثر بقراءات رجال دين وعرفاء آخرين مثل محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي والعلامة محمد حسين الطباطبائي الذي منحه الرفاعي على صعيد الدراسة والتدريس قدراً من الاهتمام لم يمنحه لسواه من المفسرين والفلاسفة والعرفاء .

ولعل التشابه الذي وجده الرفاعي بين حياة هذا الرجل الإلهي وبين حياته نفسها أن تكون ملهماً ومعيناً له على فهمه والارتباط الصميم بفكره وآرائه الكلامية ومواقفه الصوفية أو العرفانية )(8) .

إن الحديث عن (التصوف المعرفي) او تصوف العرفان والعرفاء يتكرر كثيراً لدى الدكتور الرفاعي لأنه – كما ذُكرنا – أساس من أسس المنظومة الدينية التي يؤمن بها ويدعو اليها . وقد طرح الدكتور ضياء خضير أفكاراً عميقة تتواصل معه أو تختلف عنه وترى ما لا يراه، لأن الدكتور الرفاعي قدم لنا نصاً مفتوحاً يتقبل ما هو مختلف وينتظر ما يقدمه القارئ من أجل مواصلة التفكير ، وهو يعطيه الحرية الكاملة في فهمه وتأويله وحتى في الاختلاف معه .

 -الدين والدولة في فكر الدكتور الرفاعي

ويستمر الدكتور ضياء خضير في قراءته الفاعلة فيأتلف ويختلف مع الدكتور الرفاعي في موضوع آخر من الموضوعات المهمة التي يتضمنها مشروعه الديني الجديد وهو موضوع : ( الدين والدولة ) الذي دار ويدور حوله جدال كثير في عصرنا الحديث ، ويرى أن دعوة الرفاعي الى إقامة دولة مدنية حديثة بعيدة عن مقتضيات علم الكلام القديم وسطوته التي أعادت بعض الجماعات والأحزاب الدينية انتاجها بعد أن استلهمت النموذج القديم وأعطت ظهرها للتطورات الحديثة في بناء الدول هي دعوة تشهد دون أدنى شك على حرصه ومسؤوليته الأدبية والأخلاقية والقانونية ، وما يحمله من روح انفتاح حقيقية واطلاع على ما هو موجود من نظم سياسية وفلسفية وديموقراطية حديثة في عالم اليوم لا يمكن للدولة الإسلامية القديمة أو الدولة القائمة في دار الاسلام الحالية تجنب النظر إليها . والدولة التي هي (ظاهرة اجتماعية)، وكما يقول : (أعمق وأعقد مؤسسة ابتكرها الانسان ) هي ظاهرة حية تنمو وتتطور مفاهيمها ، ويعاد تكوينها تبعاً لتراكم تجربتها وتنوعها عبر الزمان . والاشكالية الرئيسة التي يتعذر معها بناء (دولة حديثة) من هذا النوع هو كما يقول أيضاً الدين بمعناه الكلامي والفقهي القديم ، (الدين الذي ينص على التمييز بين المسلم وغير المسلم ، والرجل والمرأة ، السيد والعبد ) . وهو يشير الى أن مفهوم (المسلم) غير مفهوم (المواطن) الذي تقوم عليه الدولة الحديثة باعتبار أن (المسلم بمعناه الكلامي والفقهي يتحدث لغة وينتمي الى مجال تداولي غير الذي يتحدث به مفهوم المواطن والمجال التداولي الذي يتموقع فيه ) . وهكذا يبدو خيار الدولة المبنية على أسس إدارية ودستورية وقانونية جديدة بعيدة عن التصورات التراثية السابقة خياراً محسوماً لدى الدكتور الرفاعي . ولكن السؤال عن الكيفية التي تبنى بها هذه الدولة في الإطار الاسلامي الذي يمثله هو نفسه سيظل مع ذلك قائماً على الرغم من معارضته الجذرية لدعاة الدولة الاسلامية العصرية المستنسخة عن الماضي ، وتلك التي تتلبس مضطرة بلبوس (الدولة المدنية ) الحديثة مع عدم إيمانها بروحها وأطرها التشريعية والقانونية المختلفة . إذ كيف يمكن الفصل بين هذه الدولة المتصورة وبين صورتها العلمانية التي ارتبط بها تكوين ونشأة الدولة الحديثة في أوربا ، التي تمثل المصدر والأساس لبناء هذه الدولة في نموذجها المبني أو الذي يراد له أن يبنى على مثالها في بلد مثل العراق على سبيل المثال مازالت بعض الأحزاب ( الإسلامية) تحتل مواقع سياسية مسيطرة ومؤثرة في إدارة وتوجيه دفة الحكم فيه ..؟ وإذا كانت حقوق الانسان وحرياته هي الأساس في بناء الدولة الحديثة  في عرف الدكتور الرفاعي في حين تبقى حقوق الله بالمعنى الذي يقرره علم الكلام والفقه التقليدي هي الأساس في بناء الدولة الدينية السابقة فهل يكفي ما يسميه وجود ( دين الحقوق الروحية والأخلاقية والجمالية التي تتقدم فيه حقوق الانسان على حقوق الله ) لضمان حضور الدين بصورة فاعلة في بناء هذه الدولة ؟ ، وماذا يمكن أن يقال عن تلك الدول الغربية والشرقية الحديثة التي حققت هذا النوع من المستوى الأخلاقي الرفيع دون وجود دين اسلامي أو غيراسلامي كمضمون أو معتقد لهذه الدول ؟ . ألم يقل بعض فقهائنا إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة ؟.. فما يعني الناس في النتيجة أن الأساس في شرعية الدولة أو عدم شرعيتها هو مدى قدرتها على إقامة العدل بمفهومه الواسع بين الناس بصرف النظر عن شكل هذه الدولة ونوع المصطلحات التي تستخدمها . 

والسؤال مرة أخرى هو : ما موقع الاسلام أخلاقاً وأدباً وروحاً في بناء هذه الدولة وما هي الضمانة التي يتم عن طريقها تحقق الرهان على وجوده ؟ )(9) .

بعض مشروطيات النص الديني –

 ويأخذ الدكتور ضياء خضير على الدكتور الرفاعي أن هناك أسئلة لم يجب عنها وفراغات لم يقم بملئها ، فهو ( يعي جيداً أن الانسان عندنا ما زال يخضع (لمشروطيات) النص الديني فيدعو الى (تحيين) هذا النص وجعله معاصراً لنا ولايشرح لنا بدقة الكيفية العملية التي نذهب بها الى تطبيق هذا التحيين.. والدكتور الرفاعي يرى أن ما يجعل هذا التحيين الذي تتطلبه القراءة الهرمنيوطيقية للنص الديني ممكناً أن في كل نص هامشاً حراً مفتوحاً للقراءة ولكنه لم يحدد مثل هذا الهامش بطريقة عملية واضحة وهل يمكن القول مثلاً إن مسألة الحجاب غير ملزمة للمرأة المسلمة اعتماداً على ما ذكر من أن الأمر في نزول الآية الكريمة الخاصة بالحجاب كان متصلاً بنساء الرسول (ص) ؟ وهل يمكن أن يكون تمام الآية الخاصة بتعدد الزوجات ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) – النساء 3 – هو هذا الهامش الذي نبحث عنه ، وكيف السبيل الى هذه العدالة التي يتصل تحقيقها بمشاعر وعواطف بشرية لا سبيل الى السيطرة عليها ولا يكفي لتحقيقها اللجوء الى فرض مجموعة من الوسائل المادية والتنظيمية أو القانونية المحددة في حين أن البديل لا بد من أن يكون واضحاً وحاسماً حتى إذا تعارض تعارضاً صريحاً مع الأحكام الدينية التي كانت نتاجاً لواقع تاريخي مختلف . وهل يمكن قياساً على ذلك الأخذ بالسياقات التاريخية المتدرجة التي أدت الى تحريم الخمرة في سورة المائدة فيما كان هذا التحريم مفروضاً قبل ذلك فقط على المسلمين الذين يقربون الصلاة وهو سكارى في سورة النساء  ؟ أم أن هناك طرقا أخرى لتحيين النصوص الدينية لا نبدو قادرين على إدراكها، وكيف تتم هذه القراءة الجديدة للنص القرآني بما يجعله قادراً على (تخطي المسافات وعبور غربة الزمن وتحيينه في مختلف العصور ) إذا لم نستطع التعامل بصورة عملية واضحة مع إشكالات اجتماعية ضاغطة وعابرة للزمن من هذا النوع .؟ ) (10) ويبين بعد ذلك أنه يذكر هذه الموضوعات كمجرد أمثلة لمشاكل اجتماعية وقانونية قائمة نتيجة الالتزام الحرفي بالمحرمات الدينية وقراءاتها التأويلية الخاطئة عبر العصور الاسلامية المختلفة ..

-الخطاب الديني والالتزام الحرفي بالمحرمات

وبصدد الكلام على ما جر اليه الالتزام الحرفي بالمحرمات الدينية وقراءاتها التأويلية الخاطئة من بعض رجال الدين المتزمتين، يأخذ الدكتور ضياء خضير على الدكتور الرفاعي أنه يغفل أو يسكت عن جانب من الممارسات العملية لبعض الأفراد والمؤسسات الدينية ، ويذكِّره ببعض المفارقات التي ترد في كلامه ففي حين يؤكد مثلاً أن المرجعية النجفية لا تدعو الى قيام دولة دينية في العراق، فإنه لا يذكر أنها تتدخل على نحو سافر أحيانا في قبول أو رفض تشريع بعض القوانين المدنية ذات المساس بالحكم المدني وتحرض أتباعها على مقاومتها وعدم القبول بتطبيقها حتى اذا أدى ذلك الى الصدام مع الحكومة وتقويضها بطريقة مباشرة وغير مباشرة كما حصل لهذه المرجعية مثلاً مع قانون الأحوال الشخصية الذي شرعته حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم لإنصاف المرأة العراقية وتوفير حقوقها المستلبة عبر العصور . وما زلنا نتذكر كذلك كيف أن الفتوى التي أصدرها السيد محسن الحكيم وقال فيها إن الشيوعية ( كفر وإلحاد ) قد صبت الزيت على النار وزادت في الطين بلة خلال وضع اجتماعي وسياسي وعقائدي وفكري متردٍ وشديد التعقيد والارتباك في تاريخ البلاد السياسي الحديث بعد التغيير الذي حدث في 14 تموز عام 1958(11)

ومع هذه الملاحظات يبقى صوت الدكتور الرفاعي كما يقول الدكتور ضياء خضير يمثل الخلاصة المطلوبة التي تدعم بناء دولة حديثة خالصة من أوهام صلاحية الدين وأبديته في هذا الجانب أو ذاك خارج حقل التأويل لنصوصه بما يتناسب مع أوضاع العصر . ويبقى من هذا النمط من رجال الدين الملتزمين التزاماً روحياً وأخلاقياً صادقاً ، من الذين يفتحون هذه الفسحة الواسعة من الحرية التي يمكن أن نبني دولتنا الحديثة في إطارها بسبب من إدراكنا لصعوبة إقامة هذه الدولة بناء على تصورات كلامية وفلسفية تراثية أومعاصرة يحاول أصحابها التغطية على فشلهم الفكري لصالح استمرارهم في توفير مصالحم السياسية والدنيوية . وكما أن أسوأ تزوير للفلسفة هو استخدام اسم الفلسفة ضد الفلسفة، كما يقول الدكتور الرفاعي، يمكن القول على النحو نفسه : إن أسوأ تزوير للدين هو استخدام هؤلاء المتدينين اسم الدين ضد الدين نفسه (12) .

خلاصة

هذه مقتطفات اخترناها من قراءة الدكتور ضياء خضير لأهم محاور مشروع الدكتور الرفاعي الديني التجديدي بما يؤكد المساهمة الفاعلة في الإضاءة على نص الدكتور الرفاعي وتوسيع أبعاده والإضافة الى أفكاره ومعانيه ونترك للقارىء أن يستزيد منها بقراءة هذا الكتاب الذي نعده مدخلاً مهماً لقراءة أفكار الدكتور الرفاعي وتلمس جوانب الإبداع والتجديد في مشروعه الكبير وتبيّن المواطن التي تدعو للتساؤل والاعتراض والنقد . 

 وهكذا تؤكد قراءة الدكتور ضياء خضير صدورها عن عقل نقدي وروح موضوعية تنتقد، ولا تجامل إذا وجدت رؤية مخالفة تستحق النقد وتثني ثناء صادقاً وحقيقياً إذا وجدت ما يستند الى الحقيقة والصواب والجمال . وتظل دائماً تكبر في الدكتور الرفاعي كونه ذا عقلية عصرية منفتحة ومتحررة من قبضة الوصايا العشر التي يصنعها رجال الدين وفقهاؤه التقليديون للتحكم في واقع وتطلعات أجيال جديدة لم تعرف الخضوع لمقتضيات علم الكلام القديم ولم تجد البديل في علم كلام وفقه ديني وأخلاقي وتربوي جديد يمكن ان يأخذ بيدها ويخرجها من حالة الضياع والاغتراب بأنواعه . لقد  كان الدكتور الرفاعي يغني منفرداً داخل الحيز المكاني الذي ولد فيه وتغذى منه وأخذ علومه الدينية الأولى خلال سنوات طويلة من المناهج الفقهية التقليدية السائدة فيه .  وبهذا يجده يمثل صوتاً شديد الفاعلية في واقع مأزوم من هذا النوع حتى إذا اكتفى صاحبه بتأشير الداء ولم يصف الدواء، أو لم يحدد لنا نوعه وكيفية العلاج به بشكل أكثر دقة وتفصيلاً . ويبيّن الدكتور ضياء خضير أنه ينظربأهمية الى وجود مثل هذا الخطاب الديني المتزن الجامع للجوانب الروحية والعقلية في هذه المرحلة التاريخية القلقة من حياتنا العراقية والعربية. وهذا هو ما دفعه الى العناية به والكتابة عنه . آملاً أن يكون ما تقدم به من رؤى وأفكار مقوِّمة وناقدة محفزاً ومحرضاً على مزيد من القراءات التي تتناول القضايا الدينية والمدنية الراهنة التي وظف الدكتور الرفاعي قلمه للكتابة عنها ووضع بصمته الخاصة عليها منذ فترة طويلة من الزمن .

 وأخيراً يؤكد الدكتور ضياء أن  ليس من السهل الاحاطة بكل جوانب مشروع الدكتور الرفاعي الديني خصوصاً اذا لم يكتفِ الدارس باستعراض المفاصل والعناوين الرئيسة فيه دون قراءة نقدية مرافقة للجانبين المنهجي والفكري(13). ويقول إنه : ( لا يمكن مواجهة رجل وتجربة روحية وفكرية حقيقية بكل حرارتها وصدقها كتلك التي تنطوي عليها شخصية الدكتور الرفاعي وخطابه الديني ببعده الانساني والانطولوجي والميتافيزيقي المجدد بمجموعة من الأسئلة المنهجية والعقلية المجردة . فصحة هذه الأسئلة في ذاتها لاتنفي صحة ما يقرره الدكتور الرفاعي عن إيمانه وتجربته العملية والنظرية الضخمة في جوابه عليها.. وإذا كنا لانشك في شرعية مجمل الأسئلة النقدية  التي نطرحها  حول كتب الدكتور الرفاعي وأبحاثه فإننا لانشك في شرعية مجمل الأجوبة التي يقدمها الدكتور الرفاعي للدفاع عن مشروعه الإيماني المختلف . وحين يقول لنا منذ البدء بأن مصنفه هذا ( رسالة في الإيمان وليس كتابا أكاديمياً علمياً ) فينبغي أن يكون الفرق واضحاً لنا نحن المتلقين لهذه الرسالة من أجل استقبالها بما يناسبها من تقدير وتفهم لا يتنكران لهويتها ولا يجرحان جهد مرسلها في إعدادها وتعهده بالسهر عليها وتطويرها ، وبما لا يؤذي كذلك حرصنا على موضوعية المنهج النقدي الذي يطرح الأسئلة حول مدى سلامة هذه الرسالة من الناحية العلمية ..)(14) .

ـــــــــــــــــــ

الهوامش :

1 – في مشروع عبد الجبار الرفاعي الديني – قراءة  نقدية ، د. ضياء خضير ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 2025 ، ص 5 -7 ، 12 ، 13 .

ينظر : المصدر السابق ، ص 8 ، 9 ، 245 – 246 ، 251 .    2 –

.    نفسه ، ص 14 – 15  3 –

.      نفسه ، ص 7 – 9 ، 22 – 24 ، 28 ، 29 4 –

.  نفسه ، ص ، 109 – 113 5 –

.  نفسه ، ص 114 – 115  6 –

.  نفسه ، ص 146 – 149  7 –

.  نفسه ، ص 150 – 156  8 –

.  نفسه ، ص 157 – 161 9 –

.  نفسه ، ص 165 – 167 10 –

.  نفسه ، ص 121 – 122  11 –

.  نفسه ، ص 170 – 171  12 –

.  نفسه ، ص 245 – 252 13 –

.  نفسه ، ص 246 ، 248 – 249 14 –

Scroll to Top